السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
الحمد للّه وحده وصلى اللّه وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد...
الحمد لله أن رزقنا الصلاة وجعلها عماد الدين وشرفنا بالسجود بين يديه، ولم
يجعل عبوديتنا لغيره سبحانه وتعالى، وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام لأهمية
هذا اللقاء الإلاهي وعظيم آأثره على حياة العبد، وضرورة الاستعداد التام
لأدائه على أفضل حال، وما لذلك من الأجر العظيم والخير الكبير للعبد في
دنياه وآخرته.
َحدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا
تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ
يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ
لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ
صحيح البخارى – كتاب الجمعة /ترقيم العالمية1077- ترقيم فتح البارى1145- ترقيم د. البغا 1094
دعاء الثلث الأخير من الليل.
نافلة من نوافل العبادات الجليلة.. بها تكفر السيئات مهما عظمت.. وبها تقضى
الحاجات مهما تعثرت.. وبها يُستجاب الدعاء.. ويزول المرض والداء.. وترفع
الدرجات في دارالجزاء..
نافلة لا يلازمها إلا الصالحون، فهي دأبهم وشعارهم وهي ملاذهم وشغلهم..
تلك النافلة هي: قيام الليل.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثُّ أصحابه على القيام ويبين لهم
فضله وثوابه في الدنيا والآخرة؛ تحريضاً لهم على نيل بركاته.. والظفر
بحسناته..
قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل، فإنَّه تكفير للخطايا والذنوب، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة للداء عن الجسد".رواه الترمذي والحاكم.
* فما هي فضائل القيام ، وما أسباب التوفيق إليه؟
* ثمرات قيام الليل :
من ثمراته: دعوة تُستجاب.. وذنب يُغفر.. ومسألة تُقضى.. وزيادة في الإيمان
والتلذذ بالخشوع للرحمن.. وتحصيل للسكينة.. ونيل الطمأنينة.. واكتساب
الحسنات.. ورفعة الدرجات.. والظفر بالنضارة والحلاوة والمهابة.. وطرد
الأدواء من الجسد.
فمن منَّا مستغن عن مغفرة الله وفضله؟! ومن منَّا لا تضطره الحاجة؟! ومن
منَّا يزهد في تلك الثمرات والفضائل التي ينالها القائم في ظلمات
الليللله؟!
* وهذه توجيهات نبوية تحض على نيل هذا الخير:
فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الليلة فكن"
(رواه الترمذي وصححه).وعن أبي أمامةالباهلي رضي الله عنه قال: قيل: يا
رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات
المكتوبات" (رواه الترمذي وحسَّنه).وعن أبي هريرةرضي الله عنه أنَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك
وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من
يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" رواه البخاري ومسلم).وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح
أبواب السماءنصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيُستجاب له، هل من سائل
فيُعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله
تعالى له، إلا زانية تسعى بفرجها، أو عشاراً" رواه الترمذي وحسَّنه.
فيا ذات الحاجةها هوالله جلَّ وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة.. يقترب
منا.. ويعرض علينا رحمته واستجابته.. وعطفه ومودته.. وينادينا نداء حنوناً
مشفقاً: هل من مكروب فيفرج عنه.. فأين نحن من هذا العرض السخي!
قم أيها المكروب.. في ثلث الليل الأخير.. وقول: لبيك وسعديك.. أنا يا مولاي
المكروب وفرجك دوائي.. وأنا المهموم وكشفك سنائي.. وأنا الفقير وعطاؤك
غنائي.. وأنا الموجوع وشفاؤك رجائي..
قم.. وأحسن الوضوء.. ثم أقيم ركعات خاشعة.. أظهر فيها لله ذلَّكِ
واستكانتكِ له.. وأطلعه على نية الخير والرجاء في قلبك.. فلا تدع في
سويدائه شوب إصرار.. ولا تبيت فيه سوء نية.. ثم تضرَّع وابتهل إلى ربكِ
شاكي إليه كربك.. راجي منه الفرج.. وتيقَّن أنكِ موعود بالاستجابة.. فلا
تعجل ولا تَدَع الإنابة.. فإنَّ الله قد وعدك إن دعوته أجابك، فقال سبحانه:
)أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..( ثم
وعدك أنَّه أقرب إليكِ في الثلث الأخير، فتمَّ ذلك وعدان، والله جلَّ وعلا
لا يخلف الميعاد.
أتهـــــزأ بالدعــاءوتزدريه
ولا تدري ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطيء ولكن
لها أمـــدوللأمـــد انقضاء
قوم يا ذا الحاجة.. ولا تستكبر عن السؤال.. فقددعاك مولاك إلى التعبد له
بالدعاء فقال سبحانه: " وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِنفَضْلِهِ ".. وخير وقت
تسألينه فيه هو ثلث الليل الأخير.
قوم.. ولا تيأس مهمااشتدَّ اضطرارك.. فربَّكِ قدير لا يعجزه شيء، وإنَّما
أمره إذا قضى شيئاً أن يقولله كن فيكون.. وتذكري أنَّ الله سبحانه من جميل
رحمته قد حرَّم عليكِ سوء الظن به،كما حرَّم عليكِ اليأس من رحمته، فقال
سبحانه: " إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِاللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون"
قم.. وأحسن الظن بربك.. وتحنن إليه بجميل أوصافه.. وسعة رحمته.. وجميل
عفوه.. وعظيم عطفه ورأفته.. فحاجتك ستقضى.. وكربك سيزول.. وليلك سيفجر..
فلا تيأس واطلب في محاريب القيام الفرج !
ويا صاحب وصاحبة الذنب
قد جاءتك فرصة الغفران.. تعرض كل ليلة.. بل هي أمامك كل حين، ولكنها في الثلث الأخير أقرب إلى الظفر والنيل.
فعن أبي موسى بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنَّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه مسلم.
وقد تقدم في الحديث أنَّ الله جلَّ وعلا ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" رواه البخاري ومسلم .
ويد الله سبحانه مبسوطة للمستغفرين بالليل والنهار.. ولكن استغفار الليل
يفضل استغفار النهار بفضيلةالوقت وبركة السحر؛ ولذلك مدح الله جلّ وعلا
المستغفرين بالليل فقال سبحانه: " وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ."
وذلك لأنَّ الاستغفار بالسحر فيه من المشقة ما يكون سبباً لتعظيم الله له..
وفيه من عنت ترك الفراش ولذاذة النوم والنعاس ما يجعله أولى بالاستجابة
والقبول.. لا سيما مع مناسبة نزول المولى جلَّوعلا إلى سماء الدنيا وقربه
من المستغفرين.. فلا شكَّ أنَّ لهذا النزول بركة تفيض على دعوات السائلين
وتوبة المستغفرين وابتهالات المبتهلين.
فيا من أسرف على نفسه بالذنوب.. حتى ضاقت بها نفسه.. وشقّ عليه طلب العفو
والغفران؛ لما تراه من نفسه في نفسه من عظيم العيوب.. وكبائر السيئات.. قوم
لربك في ركعتين خاشعتين.. فقدعرض عليك بهما الغفران.. فقال لك: "من
يستغفرني فأغفر له".
قم.. واهمس في سجودك بخضوع وخشوع تقول: "أستغفرك اللهمَّ وأتوب إليك.. ربَّ
اغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين.. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت،
فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
وياصاحب و صاحبة النعمة
أقبل على ربك بالليل وأديِّ حقّ الشكر له، فإنَّ قيام الليل أنسب أوقات الشكر، وهل الشكر إلا حفظ النعمة وزيادتها؟!
تأمَّل في رسول الله، لمَّا قام حتى تفطَّرت قدماه،فقيل له: يا رسول الله، أما غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: "أفلاأكون عبداً شكوراً" رواه البخاري.
ففي هذا الحديث دلالة قوية على أنَّ قيام الليل من أعظم وسائل الشكر على
النعم.. ومن منَّا لم ينعم الله عليه؟! فنعمه سبحانه تلوح في الآفاق..
وتظهر علينا في كل صغيرة وكبيرة؛ في رزقنا وعافيتناوأولادنا وحياتنا بكلّ
مفرداتها، وما خفي علينا أكثر وأكثر.. ولذلك فإنَّ حق شكرهاواجب علينا
لزاماً في كل وقت وحين، وأحقّ الناس بالزيادة في النعمة هم أهل الشكر..
وأنسب أوقات الشكر حينما يقترب المنعم وينزل إلى السماء الدنيا.. ولذلك كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلل قيامه ويقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً". أي: أفلاأشكر الله عزَّ وجلَّ.
فقومي ياأختي ـ وقم ياأخي- ليلك.. بنية ذكرالله.. ونية الاستغفار.. ونية
الشكر.. تبسط لك النعم.. ويبارك لك في مالك وعافيتكوأهلك وولدك وبيتك وشأنك
كله.
ما يعينك على القيام :
أولاً:
الإقلال من الطعام: فإنَّ كثرة الطعام مجلبة للنوم، ولا يخف قيام الليل إلا
على من قلَّ طعامه، ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدود الشبع
وآدابه، فقال: "ماملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن
صلبه، فإن كان لا محاولة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" رواه أحمد
والترمذي، وهو في صحيح الجامعبرقم: 5550.
قال عبد الواحد بن زيد: "من قوي على بطنه قوي على دينه،ومن قوي على بطنه
قوي على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرَّته في دينه من قبل بطنه فذاك
رجل من العابدين أعمى".
وقال وهب بن منبه: "ليس من بني آدم أحبّ إلى الشيطان من الأكول النوَّام".
وقال سفيان الثوري: "عليكم بقلة الأكل تملكوا قيام الليل".
وجدت الجوع يطرده رغيف
وملء الكفء من ماءالفرات
وقِلُّ الطُّعْمِ عـــــون للمصلي
وكثر الطعم عونللسُّــــــبات
ثانياً:
الاقتصاد في الكدّ نهاراً: والمقصود به عدم إتعاب النفس بما لا ضرورة منه،
ولا مصلحة راجحة، كفضول الأعمال والأقوال ونحوها، أمَّا مايستوجبه الكسب
والحياة من الضروريات، ولا غنى للمرء عن الكد لأجله؛ فيقتصد فيه بحسبما
تتحقق به المصالح.
ثالثاًً:
اجتناب المعاصي وتركها: فالمعصية تقعس عن الطاعة، وتوجب التشاغل عن
العبادات، وتحرم المؤمن التوفيق إلى النوافل والفضائل،ولذلك تواتر عن السلف
القول بأنَّ المعاصي تحرم العبد من القيام.
قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى، وأحبّ قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لاأقوم؟ فقال: "ذنوبك قيدتك".
وقال الثوري: "حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته". قيل: وماهو؟ قال: رأيت رجلاً يبكي، فقلت في نفسي: "هذا مُراء".
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟ قال:"
لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه بالليل، فإنَّ وقوفك بين يديه في
الليل من أعظم الشرف،والعاصي لا يستحق ذلك الشرف".
رابعاً : سلامة القلب عن الأحقاد على المسلمين ومن البدع وفضول هموم الدنيا، فإنَّ ذلك يشغل القلب ويضغط عليه فلا يكاد يهتم بشيء سواه.
خامساً : خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل، فإنَّه إذاتفكَّر أهوال الآخرة ودركات جهنَّم طار نومه وعظم حذره.
سادساً :
الوقوف على فضائل القيام وثمراته فإنَّها تهيج الشوق وتعلي الهمة وتحيي في
النفس الطمع في رضوان الله وثوابه، وقد تقدَّم ذكر أهمها.
سابعاً :
وهو أشرف البواعث: حبَّ الله وقوة الإيمان؛ لأنَّه في قيامه لا يتكلم بحرف
إلا وهو مناج به ربه ومطلع عليه، مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأنَّ تلك
الخطرات من الله تعالى خطاب معه، فإذاأحببت الله تعالى أحبّ لا محالة
الخلوة به وتلذذ بالمناجاة؛ فتحمله لذة المناجاة للحبيب على طول القيام
منقول