لماذا لا نتأثر بالقرآن :
القرآن الذي كان بأيدي الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ... هو القرآن الذي بين أيدينا اليوم .
لماذا هم يتأثرون بالقرآن ونحن لا نتأثر ؟
لو سألت أحداً منا اليوم:
ماذا استفدت من قراءتك للقرآن ؟
لن
يتعدى الجواب عند أحدنا بـ " الحصول على الثواب " . وأنعم بها من فائدة
...ولكن الذي أريد عنايته هوالاستفادة من معاني القرآن وما تحمله من هداية
واستقامة على دين الله ، وأمر الله :
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) [ البقرة185] .
هدى ، وبينات من الهدى والفرقان ....
(إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً ) [ الإسراء 9] .
يهدي للتي هي أقوم ....
( مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) [ طه2] .
سعادة ...
( وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [ الفرقان32 ] .
تثبيت للقلوب ...
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [ الزمر 27] .
( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) [ق45] .
ذكرى وموعظة ...
( لَوْ
أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الحشر21].
خشوع لله ...
فالواحد
منا يقرأ القرآن ويختمه ويجوده ، دون أن تجد أثراً لهذه القراءة في أفعاله
وسلوكه ـ إلا من رحم الله ـ بل لو سألت أحداً منا عن الآيات التي أستوقفته
وأثرت فيه وفي حياته ، لا تجد عنده جواباً .
فهل القرآن نزل من أجل تجويده وترتيله وطلب الثواب في قراءته ؟ !!
قيمة
القرآن وبركته تكمل في معانيه ، في تدبره وتأمله ، فما اللفظ وترتيله إلا
وسيلة في إدارك المعنى وتحصيله ، وطلب الخشوع التأثر به ..
( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) [ النساء82 ] .
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) [ص29] .
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [محمد24] .
يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ في مقدمة أصول التفسير ( ص 75) :
" ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد الفاظه ،
فالقرآن أولى بذلك " .
فالعبرة ليست بمقدار ما يقرأه الإنسان ، بل بمقدار ما يستفيده .
فأين التأثير من قراءة القرآن .. والله تعالى يقول :
( وَلَوْ
أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ) الآية [ الرعد31 ] .
ويقول : ( لَوْ
أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الحشر21].
هل يكون تأثر الجن بهذا القرآن خيراً منا :
( وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا
قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32) .[ سورة الأحقاف ] .
أين النفوس والقلوب التي تحسن الاستماع إلى القرآن ، واستقباله ، والتعامل معه على أنه كتاب هداية وشفاء للناس ؟
أين القلوب التي تحسن الاستماع إلى القرآن ، والتأثر به ، والعمل به ..
قبل
أيام كنت أستمع إلى قراءة أحد أئمة الحرم يقرأ ـ حفظه الله ـ بقراءة كلها
خشوع وبكاء ، وكنت أنظر إلى عدسة التصوير تجوب أرجاع الحرم المكي الشريف
وترى الناس وكأنهم لا يسمعون القرآن ـ إلا من رحم الله ـ وعندما قنت الإمام
وأخذ بالدعاء رأيت العجب من البكاء ، والخشوع ، والتضرع ـ وهذا طيب ـ ولكن
كان الأولى أن ترى هذا الخشوع ، وهذا البكاء ، وهذا السؤال في الناس وهم
تسمعون القرآن ، تستمعون تلك الآيات التي لو أنزلت ( جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) [الحشر21].
لماذا غير القرآن حياة الصحابة ، ولم يغير حياتنا ؟!
الجواب
: لأنهم أحسنوا التعامل مع القرآن ، أدركوا قيمته وفهموا المقصد من نزوله ،
وأنه لا عز لهم ولا نصر إلا بالتمسك به وبتعاليمه .
عاش الصحابة القرآن بكل ما فيه ، تلاوة ، وخشوعاً ، وتدبراً ، وعلماً ، وعملاً ، حتى صار الواحد منهم كأنه قرآن يمشي على الأرض .
كان القرآن حياتهم :
أخرج
ابن إسحاق ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا مع رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلّم ـ في غزوة ذات الرِقاع من نخل ، فأصاب رجل إمرأة رجل من
المشركين . فلما انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قافلاً أتى
زوجُها ـ وكان غائباً ـ فلما أُخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يُهَرِيقَ في
أصحاب محمد دماً . فخرج يتبع أثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فنزل
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ منزلاً فقال : «من يكلؤنا ليلتَنا؟»
فانتدب رجل من المهاجرين ، ورجل من الأنصار فقالا : نحن يا رسول الله . قال
: «فكونا بفم الشِّعب من الوادي» فلما خرجا إلى فم الشِّعب قال الأنصاري
للمهاجري : أيُّ الليل تحب أن أكفيكَهُ أولَه أم آخرَه؟ قال : بل أكفني
أوّلَه ، فاضطجع المهاجري فنام ؛ وقام الأنصاري يصلِّي . قال : وأتى الرجل :
فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئةُ القوم ، فرمى بهم فوضعه فيه ، فانتزعه
ووضعه وثبت قائماً . قال : ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه ، فنزعه فوضعه وثبت
قائماً . قال : ثم عاد له بالثالث ، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه ، ثم ركع وسجد ،
ثم أهبّ صاحبه ، فقال : إجلس فقد أُثْبِتُ. قال : فوثب الرجل ، فلما رآهما
عرف أنه قد نذِرا به ، فهرب . قال : ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من
الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت
في سورة أقرؤها ، فلم أحبّ أن أقطعها حتى أنفذها . فلما تابع عليّ الرمي
ركعت فآذنتك ، وايْمُ الله ، لولا أن أضيِّع ثغراً أمرني رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلّم ـ بحفظه لقَطَع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها .
علقه البخاري في "صحيحه" في " كتاب الوضوء" فقال : ويذكر عن جابر بن عبد
اللّه ، أن النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ كان في غزوة ذات الرقاع ، فرمى
رجل بسهم فنزفه الدم ، فركع وسجد ومضى في صلاته . انتهى .
قال
الحافظ في الفتح ( 1 / 375) : " وصله ابن إسحق في المغازي قال : حدثني
صدقة بن يسار ، عن عقيل بن جابر ، عن أبيه مطولاً . وأخرجه أحمد ، وأبو
داود ، والدارقطني ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، كلهم من طريق
ابن إسحق ، وشيخه صدقة ثقة ، وعَقيل بفتح العين لا أعرف راوياً عنه غير
صدقة ، ولهذا لم يجزم به المصنف ، أو لكونه اختصره ، أو للخلاف في ابن إسحق
" .
وقال : " وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر وسمى الأنصاري المذكور عباد بن بشر ، والمهاجري عمار بن ياسر، والسورة الكهف " .
وإنك
أخي الكريم لتعجب قبل ذلك من قوة تأثير القرآن على رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ : " شيبتني ( هود) وأخواتها " . رواه الطبراني في الكبير ( 17/ 286/790) ، وجود الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ إسناده .
أنظر " الصحيحة " ( 2/641) حديث رقم (955) .
فهل شيبنا شيئ من القرآن ؟ !!
العبرة ـ والله ـ ليس بختم القرآن فقط دون تدبر وتعقل لمعانيه ، العبرة أن نقيم القرآن في حياتنا وواقعنا ، أن نقرأ القرآن على مكث :
(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) [الإسراء106]
على مُهل وتؤدة ليفهموه ..
وأخيراً
: هذا القرآن هو القرآن الذي كان بأيدي الصحابة ..والذي صنع منهم الجيل
المثالي للأمة ، صنع منهم العلماء ، والدعاة ، والعُبّاد ، والأتقياء ،
والقادة ، والأبطال ، صنع لهم حياة مثالية فيها عز الدنيا والآخرة ..
فما الذي حدث ؟
لماذا لم يعد القرآن ينتج مثل نماذج الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعين ـ رحمه الله ـ ؟
هل فقد مفعوله في الأمة ، أم الأمة فقدت مفعولها من القرآن ؟
لا
والله ، العيب فيها .. العيب في الأمة ... وليس في القرآن ، حاشا لله أن
يكون في القرآن وهو معجزة الله الخالدة إلى يوم القيامة ، الهداية من الله
للأمة :
( إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً ) [ الإسراء 9] .
يقول
مجدي الهلالي في رسالة له بعنوان " كيف ننتفع بالقرآن " : " .. الخلل فينا
نحن ، فمع وجود المصاحف في كل بيت ، وما تبثه الإذاعات ليل نهار من آيات
القرآن ، ومع وجود عشرات بل مئات الآلاف من الحفاظ على مستوى الأمة وبصورة
لم تكن موجودة في العصر الأول ، إلا أن الأمة لم تجن ثماراً حقيقية لهذا
الاهتمام بالقرآن .. لماذا ؟
لأننا
لا نوفر للقرآن الشروط التي يحتاجها لتظهر آثار معجزته ويقوم بمهمة
التغيير ، فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على لفظه ، واختزل مفهوم تعلم
القرآن على تعلم حروفه وكيفية النطق بها دون أن يصحب ذلك تعلم معانيه ،
وأصبح الدافع الرئيسي لتلاوته هو نيل الثواب والأجر دون النظر إلى ما تحمله
آياته من معان هادية وشافية مما جعل الواحد منا يسرح في أودية الدنيا وهو
يقرأ القرآن ، ويفاجأ بانتهاء السورة ليبدأ في غيرها ، ويبدأ في السرحان
مرة أخرى دون أن يجد حرجاً في ذلك ، بل إنه في الغالب ما يكون سعيداً ،
وفرحاً بما أنجزه من قراءة كماً لا كيفاً !
ندير مؤثر المذياع على صوت قارئ القرآن ثم نتركه يرتل الآيات ويخاطب بها الجدران ثم ينصرف كل منا إلى ما يشغله " .
هذا
هو تعاملنا مع القرآن ، تعامل شكلي لاحقيقة فيه ، تعامل مع حروفه ، تعامل
مع التغني به ، تعامل مع تجويده وقراءته على عدة أوجه .. تعامل لنرقي به
ونعالج به ...
وهذا والله طيب ،
ولكن أين التعامل الحقيقي مع القرآن ، أين التعامل مع معانيه ، أين
التعامل مع حدوده وواجباته ، وأوامره ونواهيه ، أين التعامل مع توجيهاته
توصياته ، أين التعامل مع التفقه فيه ، لهذا فقدنا تأثير القرآن ، فقدنا
معجزة القرآن ، تغيرت علينا أنفسنا وقلوبنا وأصبحنا لا ننتفع بالقرآن .
فلا بد من عودة لنحيا يالقرآن ..
( إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [الأنفال2] ..