عن
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مسجده المبارك وكان ريح ومطر، إذ سمعنا صوتا جهوريا من وراء
المسجد يقول: السلام عليك يا محمد ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فالتفت لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال: ردوا على أخواتكم السلام رحمكم الله، فقلنا: يا
رسول الله على من نرد ونحن لم نر أحدا، نرد على الملائكة أم على الجان؟،
فقال: بل على أخوانكم الجان الذين آمنوا وصدقوا برسالتي، ثم نادي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: اظهر لنا أيها المتكلم لنراك، فظهر لنا شيخ قال
علي رضي الله عنه: وإذا به عرفطة بن شماخ، وكنت به عارفا لان النبي صلى
الله عليه وسلم، قد أرسلني معه إلى قومه، فأحرقت بأسماء الله تعالى وبنوره
منهم زيادة عن خمسين قبيلة من الجن وآمن منهم خلق كثير، فسلم عرفطة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس (بجوار) النبي فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ما حاجتك؟، قال: يا رسول الله قد جئتك لأخبرك عما نحن فيه،
الحرب والوقائع وقتال القبائل الجواهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مع
من يا عرطفة؟، فقال: مع كفار الجن ومردتهم وكذلك مع عفاريتهم عبدة الأوثان،
جنة المنيع وناره
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ديارهم قريبة منا أم بعيدة يا عرطفة؟،
فقال: يا سيدي في جبال وأوكار وأودية شتى، قد أهلكنا منهم خلقا كثيرا
واهلكوا منا خلقا كثيرا، وان لهم صنما يسمونه "المنيع"، وقد تعالى الله عز
وجل عن أن يمثل وهو السميع البصير، فصنمهم هذا قائم بخدمة الملك الهضام بن
الجحاف بن عوف بن غانم الباهلي الملقب بمرآة الموت لعنه الله، والصنم
المنيع موكل به مارد يقال له عنريس بن دريس بن إبليس، وله عشيرة عظيمة
وقبيلة جسيمة ونحن في غزوهم وجهادهم، وقد اشتدت بلية القوم وتعاظم أمر
الهضام وكفر بالله تعالى واتخذ من دون الله إلها يسمونه المنيع، وجعل له
جنة ونار وجعل له زبانية وسماهم الغلاظ الشداد، وجعل له ملائكة وسماهم
البررة الكرام، وجعل في جنته الأشجار والأنهار والأطيار، وجعل فيها
المخدرات المنعمات وسماهم الحور العين، وجعل لها عرشا وكرسيا، ومن
العفاريت الطيارين وسماهم الملائكة المقربين، وأنت رسول الله لم يبلغك من
ذلك كله، وقد اشتد تمرد القوم وطغيانهم وكفرانهم لرب العالمين.
(قال
الراوي) فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفطة اشتد به الغضب
حتى كاد يضطرب كالسفينة في الريح العاصف، وسجد على الأرض طويلا ثم رفع
رأسه وقد سكن ما به من غيظ ولمع النور من بين عينيه صلى الله عليه وسلم
حتى لحق عنان السماء ثم أقبل على عرطفة وقال له: انصرف شكر الله سعيك
وأحسن إليك وأنا ابعث إليهم رسولا وهو خليفتي(المطبوع: حنيفى) ونقمتي على
أعدائي، فقال عرطفة: يا رسول الله إذا بعثت للقوم رجالا من الأنس أبادوهم
وقتلوهم، فان عساكر الأنس لن(المطبوع لم) يطيقوا قتال الجن ومردتهم،
ولن(ط: لم) يبلغك ما تريد إلا الفارس الصنديد والبطل الشديد، قالع الحلقة
والقصر المشيد ومبيد الإنس والجن في البئر العميق، مفرق الكتايب ومظهر
العجايب والغرايب، صاحب الحسام القاضب والغمام الساكب ابن عمك أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم غاب عرطفة عن أعين الناس، فنظروا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد تغير لونه وظهر غيظه واحمرت عيناه وتقوس
حاجباه، فعم ذلك على المسلمين وجلسوا حوله ينظرون إلى الأرض ويحدقون إلى
الإمام علي كرم الله وجهه، ويشيرونه عما نزل برسول الله صلى الله عليه
وسلم، والإمام علي لا يتكلم ولم يرد عليهم.
جبريل يكلف الإمام علي
(قال
الراوي) فبينما الناس في ذلك وإذا بجبريل عليه السلام قد نزل من عند رب
العالمين، فوثب له النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا وهو ينادي: لبيك لبيك
اللهم إنا نسألك الفرج منك يا مفرج كل كرب ومزيل كل هم وغم، وخرج النبي
صلى الله عليه وسلم من المسجد، وقال: لا يقم أحد من مكانه حتى أعود إليكم،
وخرج فمكث قليلا ثم رجع إلى أصحابه وهم جلوس كل واحد منهم في مقامه، وقد
تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم فرحا وسرورا وجعل النور يشرق من بين عينيه
صلى الله عليه وسلم، فوثب(ط: فتواثب) الناس إليه يسألونه عن أمره.
(قال
الراوي) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا بارك الله فيكم، فجلس
الناس جميعا وصمتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين سلمان(سلمان
الفارسي: صحابي، توفى سنة 32هـ) وعمار(عمار بن ياسر، صحابي جليل من أوائل
من أسلموا، استشهد في موقعة صفين سنة 37هـ، عن عمر 97 سنه)؟، فأجاباه
بالتلبية: ها نحن بين يديك قل ما شئت يا رسول الله، فإنا لكلامك سامعون
ولأمرك مطيعون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: سيروا في شوارع
المدينة(وهو ما يعنى أن هذه الواقعة كانت بعد الهجرة المحمدية) ونادوا
الصلاة جامعة بمسجد المختار، الله الواحد القهار، فلما سمع الصحابة منه
صلى الله عليه وسلم ذلك النداء، جعلوا يهرعون إليه من كل جانب ومكان حتى
امتلأ المسجد بالنبي، ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر( كان النبي
يخطب
مستندا على جزع نخلة قبل أن يتخذ منبرا، وذكر انه أول من اتخذ المنبر)
وخطب خطبة بليغة فشوق إلى الجنة ونعيمها وحذر من النار وجحيمها.
خطبة الرسول
(قال
الراوي) قال النبي صلى الله عليه وسلم معاشر المسلمين: إن الله جل وعلا
تقدست أسماؤه ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا اله غيره بعد، رفع السماء بلا
عمد وأرسى الجبال بلا وتد، وزين السماء بالنجوم الزاهرات والأفلاك
الدائرات، وأجري فيها الشمس والقمر آيات لأولى الألباب، وبسط
الأرضين(مفردها: أرض) بحكمه على تيار الماء وثبتها بالجبال الراسيات،
واضحك تغوير البقاع الجامدات بفيض دموع السحاب المسخرات، وثبت الرياح
العاصفات مخاليب الطيور الصافنات(الطائر الذي مَهَّد لفراخه فراشاً من
الحشيش والريش) وقوى قبة الجبال الراسيات تلاطم أمواج البحار
الزاخرات(الزاخر: الفائض الطامى) وعلق أستار وأوراق الأغصان النضرات
(قال
الراوي) ثم قال رسول الله صلى عليه وسلم: أيها المسلمون، أنا بشر منكم آكل
مما تأكلون واشرب مما تشربون ولا اعلم ما كان ولا يكون ولا يحيط بذلك علما
إلا من يقول للشئ كن فيكون، ثم بعد ذلك أعلمكم أنه قد وفد على عرفطة من
إخوانكم في الدين وهو من الجن المؤمنين، وقد اخبرنا عن اللعين الملك
الهضام ابن الحجاف بن عوف بن غانم الباهلي لعنه الله، قد اتخذ له صنما
وسماه "المنيع"، وصنع له جنة ونارا وملائكة وزبانية(ملائكة التعذيب في
جهنم، يدفعون أهل النار إليها)، فيدخل من أطاعه وأطاع صنمه في جنة، ويعذب
بناره من عصاه وعصى صنعه، وقد غره حكم إبليس اللعين واستدراجه وآهاله(
فزعه)، فلما سمعت ذلك كبر علي وعظم لدي ولا خفف عني ذلك إلا حبيبي جبريل،
وقد آتاني وأخبرني عن ربي عز وجل، وهو يقول يا محمد: الله يقرئك السلام،
ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: إني قد علمت بما في نفسك وما قد نزل
بك، واني مبشرك أن دمار القوم ودمار صنمهم على يد رجل يحبه الله
والملائكة، وهو سيف نقمتك وباب مدينتك( نسب للرسول أنه قال: أنا مدينة
العلم وعلى بابها) الذى(ط: التي) ما سجد لصنم قط، وهو زوج البتول(فاطمة
الزهراء ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام) والمتولي لدعوتك وحامل رايتك،
الفتى الولي مفرق الكتائب ومظهر العجائب والغرائب، الحسام الغاضب والليث
المحارب والغيث(المطر الغزير) الساكب لبني غالب أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب كرم الله وجهه، وهذه إشارة من عند ربي الأعلى، ثم أن النبي صلى الله
عليه وسلم كشف عن يده فإذا فيها حريره سوداء، مكتوب فيها بقلم القدر لم
يكتبها كاتب، فلما نشرها صلى الله عليه وسلم ظهر لنا نور له شعاع عظيم،
فقال الصحابة: يا رسول الله اخبرنا بما فيها، فنظر فإذا فيها مكتوب:"
بمشيئة الجبار أمر من الطالب الغالب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه"، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، وقالوا: لقد فاز من أمر
الجبار وقربه برسول صلى الله عليه وسلم وعلى الله الأخيار وأحزن بذلك
الكفار.
أرض الهضام
قال
الراوي: ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه وقال لهم: معاشر
المسلمين هل فيكم من وصل إلى ديار اللعين الهضام بن الجحاف بن عون فيخبرنا
بما شاهد من أبطاله وأعوانه وكفره وطغيانه، فقام عند ذلك رجل من المسلمين
يقال له عبد الله بن أنيس الجهني رحمة الله عليه(أنصاريا: هو الذي سأل
الرسول عن ليلة القدر، توفى سنة 74هـ) فقال: أنا أخشى أن يداخل قلبك الوهم
والهم عن وصفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا ابن أنيس فإنا
لا نخاف مع الله أحدا، فقال يا رسول الله: أنت بأبي وأمي أن خبره عظيم، أن
الهضام بن الجحاف لما نظر إلى أصنام العرب التي يعبدونها من دون الله عز
وجل، وجعل في سماء القبة حجرا من المغناطيس، وفي أسفل القبة حجرا أخر، وعن
يمين القبة حجرا، وعن يسارها حجرا يوازن بعضها بعضا ويعادل بعضها بعضا،
وأوقف الصنم في وسطها في الهواء يجذبه كل حجر بقوته، وذلك الصنم مرصع
بالجواهر واليواقيت(مفردها ياقوته: من الأحجار الكريمة) النفيسة وكساه
بالحرير الملون، ونصب له كرسيا مرتفعا مكللا بالدر والجواهر، وشده بقضبان
الذهب الأحمر والفضة البيضاء، فما كان من العاج الأبيض كانت كواكبه من
الذهب، وما كان من الأبنوس الأسود كانت كواكبه من الفضة البيضاء، جعل لتلك
القبة بابا عظيما من الذهب الأحمر، وعلق على باب القبة سترا مزركشا، وعلق
من داخل القبة قناديل من اللؤلؤ بسلاسل من ذهب يوقد بطيب
الادهان(ط:الأذهان)، وبني من خارج القبة بيتا عظيما مانعا بالعلو، وجعل
سقف القبة من خشب الصندل وفصل أرضها وحيطانها بالرخام الملون، وجعل من
ورائها بيتا آخر مثل البيت الأول، ومازال كذلك حتى جعلها سبعة بيوت على
بعضها بعضا ولها سبعة أبواب، منها ما هو من العاج، ومنها ما هو من الأبنوس
وغير ذلك، وقدر ركب في تلك البيوت جامات(مفردها جامة: وهى الزجاج) من
البللور المختلف الألوان، فإذا طلعت الشمس على تلك الكواكب أشرق نورها على
تلك البيوت والقبة، وجعل على كل باب حاجبا موكلا به، فإذا ورد إليه وارد
(ط: وأراد) أو قصد إليه قاصد من بعض الملوك أوقفه الحاجب الأول والثاني
كذلك، حتى ينتهي إلى الباب السابع، وكلما جاوز بابا نظر إلى غيره، فإذا هو
أعظم من الذي قبله، فإذا وصل إلى المكان الذي فيه عدو الله الهضام وجده
جالسا على سريره(عرشه، كرسي الملك)، وقد أحدقت به جنوده والحجاب حوله،
فإذا وقعت بين يديه أمره الهضام بقلع ثيابه فيقلعها ويلبسونه ثيابا غيرها،
ويقولون له: إن ثيابك هذه عصيت فيها، فهي لا تصلح أن تدخل على الإله
المنيع وأنت تطلب منه الغفران، ثم يدفع له خاتما من الحديد ويقولون له: إن
هذا الخاتم الذي تريد به عفوه عنك، فإذا ثبت في يدك فقد عفا عنك وقبل
توبتك، ثم بعد ذلك يأمر الملك الهضام بفتح القبة لذلك الشخص، فإذا دخل على
الصنم وجد في نفسه شيئا، فيظن أن الصنم قد قربه إليه، فيقولون له أشد يدك
على الخاتم ولا تخلعه فيغضب عليك الذي أنت طالب رضاه، وكلما قرب من الصنم
جذبته السلسلة إلى ورائه، فإذا كان لا ينقلع الخاتم من يده يأمرونه
بالسجود فيخر ساجد، ولم يزل كذلك حتى يهتف به من جوف الصنم الشيطان الموكل
به ويأمره بالقيام فيقوم فينذر ذلك الشخص مما أمكنه من الذهب والفضة أو
جواهر أو جوار أو عبيد أو خيل قدر ما تصل إليه قوته، وقد استولى اللعين
الهضام بهذه الحيل على أموال الناس.
جهنم
فلما
فرغ من ذلك خرج إلى فلاة (الأرض الواسعة المقفرة، ج: فلا وفلوات) عظيمة
ملء الأرض فجمع الصناع، وأمر بحفر حفرة طويلة طولها أربعمائة ذراع وعرضها
مثل ذلك، ثم جعل لها أساسا وبناها بالصخور العظام، وأوقف عليها ألف عبد
أسود غلاظا، وأفرد لها ألف بعير يحملونها الأحطاب والأخشاب، وألف عبد
يجمعون لهم ذلك ويحملونه إلى الحفرة، وألف يضرمون النار في الليل والنهار،
وسمى تلك الحفرة جهنم، حتى إذا مر بهم طائر احترق من شدة لهيبها، وبني لها
درجات عاليات، ولما فرغ من ذلك بني دائرة واسعة طولها عشرون فرسخا( الفرسخ
حوالي خمسة كيلو مترات) وعرضها مثل ذلك، وجعل طينها المسك والزعفران
وأحجارها من جميع الألوان، مثل الأحمر والأصفر والأبيض والأخضر والأزرق،
وغرس فيها الأشجار وجمع فيها كامل الأوصاف والأطيار، وبني في وسطها دكه
بيضاء من الرخام المختلف الألوان، واتخذ فيها قصور وجعل سقوفها من الذهب
الأحمر والفضة البيضاء، وجعل فيها مجالس وقبابا(مفردها: قبة) زاهرات، وفرش
أرضها من العقيق الأحمر والسندس الأخضر، وجعل فيها جواري أبكار كأنهن
الأقمار، ونظم ذوائبهن بالدر والياقوت، ووكل بأبواب تلك المقاصير غلمانا
مردا(الأمرد: الذى لم تنبت لحيته) جردا وسماهم الملائكة، عليهم حلل من
أنواع الحرير وعلى رؤوسهم عمائم خضر، وجمع في هذه المقاصير من الفواكه
الصيفية والشتوية من أطيب الأثمار، وجعل فيها الأطيار تغرد على الأغصان
بأنواع اللغات، وجعل فيها أصناف الطيب(العطر) المعجون بماء الورد من حول
تلك المقاصير، وفيها الخمر مسكوب والعسل مصبوب واللبن محلوب يصب في قنوات،
فمن أطاع هذا الصنم أدخله هذه الجنة وتلذذ بنعيمها، ومن عصاه أدخله هذه
النار يتلظى بجحيمها، وقد تزايد أمر هذا اللعين الجبار، وشاع بين العرب
بشجاعته وعظم شره حتى لقبوه بمرارة الموت.
وادي القمر
(قال
الراوي): فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: يا ابن أنيس
لقد حدثتني عن أمر عظيم لم اسمع مثله قط، وأين أرضه وبلاده ومستقره؟، قال:
يا رسول الله بأطراف اليمن مائلا إلى العمران في واد يقال له وادي القمر،
فنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أمير المؤمنين وحامي حوزة الدين،
مفرق الكتائب ومظهر العجائب ومبدي الغرائب، الليث المحارب والغيث الساكب،
والحسام القاضب ليث بني غالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلما سمع
نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وثب قائما على قدميه
وانشد وجعل يقول شعر: لبيك من داع ومن منادي، لبيك نور الله في البلاد،
لبيك من داع إلى الرشاد، فرجت عني كربة الفؤاد، قل ما تشاء يا أكبر
العباد، أفديك بالآهلين والأولاد، (قال الراوي) فلما سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم تبسم ضاحكا من قول الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه، ثم
اقبل الإمام على النبي صلى الله عليه وسلم ووقف بين يديه، فضمه النبي صلى
الله عليه وسلم إلى صدره وقبله بين عينيه، وقال: معاشر المسلمين هذا علي
ابن عمي ووارث علمي، وزوج ابنتي وحامل رايتي، وسيف نقمتي، من أساء إليه
أساء إلي، ومن أحسن إليه فقد أحسن إلي، ومن أحبه فقد أحبني، ومن ابغضه فقد
ابغضني، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من
خذله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أسمعت ما وصفه عبد الله بن أنيس الجهني
عن عدو الله هضام بن الجحاف وتجبره وكفره وجموحه؟، قال: نعم يا رسول الله،
فقال رسول الله: يا أبا الحسن إن الله أمرني أن أخبرك بهذا الخبر، وقد
وعدني ربي بنصرك وحفظك ورجوعك إلي سالما غانما، فماذا تقول؟، وأمر لك
عصابة من المسلمين وجماعة من المؤمنين تسير فيهم إلى عدو الله الكاف،ر وقد
بلغني بأنه تكاسر من الورود، وان أكثر منهم مددا، وهو القادر على أن لا
يبقي منها أحدا.
صمت الإمام
(قال
الراوي) فاطرق الإمام علي رأسه، ثم رفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ونظر ولم يتكلم، ثم عاد إلى إطراقه ساعة ولم يتكلم، ثم عاودها ثالثا فعظم
ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تبين في ذلك الوقت في وجوه
المنافقين وقال بعضهم لبعض: إن علي بن أبي طالب كره التوجه إلى الهضام
ويحق له ذلك، ومن يقدر على وصف عبد الله بن أنيس؟، وتكلم المؤمنين على قد
ما وصل إليهم وقال بعضهم: لاشك انه يطلب جماعة يسير بهم إلى عدو الله
ولكنه استحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر له ذلك، وقال بعضهم:
إن عليا كره الخروج من غير جذع ولا فزع، وكثرت الأقوال بين الناس وعظم على
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا الحسن ما السكوت والتواني برد
الجواب ما أملت منك إلا انك أمر مبادر والى ما أخبرتك مسارع، فهل لك من
حاجة فتقضى أو كلمة فتمضى؟،(قال الراوي) فلما سمع ذلك الإمام علي كرم الله
وجهه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم ضاحكا وقال: يا رسول الله
حاجتي تقضيها كائنة ما كان، قال: نعم أي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا
أني اقضيها إن وجدت إلى قضائها سبيلا، فقال الإمام علي رضي عنه: ألم تأتيك
البشرى من عند المولى الكريم رب العالمين أن ترسلني لهذا الأمر وضمن لك
سلامي وحفظ رعايتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم يا أبا الحسن،
فقال الإمام علي كرم الله وجهه: إذا كان من يعصمني ويسلمني ويحفظني لا
حاجة بأحد غيره، ولا تبعث لهذا الأمر احد سواي، فحسبي يا رسول الله نصر
الله عز وجل وهو خير الناصرين، واسأل الله جلب المسرة إلى فؤادك.
من الرسول إلى الهضام
(قال
الراوي) فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه فرحا مسرورا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن كفاك الله شأنيك واهلك
معاديك، ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمين جميعا عند
ذلك فرحين بما كشف الله من قلوبهم من الهم والكرب وإرغام أنف المنافقين
أعداء الله، قال عبد الله بن أبي(بن) سلول لعنه الله وهو رأس المنافقين
بالمدينة(سيد قبيلة الخزرج، توفى سنة 9هـ، وصلى عليه الرسول، ونزل بعدها
قوله تعالى:"ولا تصلى على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا
بالله ــــ التوبة 84") : هذه أعظم فرحة وحق اللاتي والمعزى لتحرقن عظام
علي بن أبي طالب بنار الهضام، ولو خرج محمد إليه بجميع أصحابه ما قدروا
عليه، ولا بقيتم ترون علي بن أبي طالب بعد هذا اليوم أن هو خرج إليه، ثم
أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بدواة وقرطاس وقلم ودفعها إلى الإمام علي
ابن أبي طالب، وقال له: اكتب يا أبا الحسن إلى عدو الله الهضام كتاب
بالتحذير، فكتب الإمام علي كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا
كتاب من رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن عبد مناف داعي
الورى إلى الإنصاف وهاديهم إلى طريق الخير والغفران إلى الهضام بن الجحاف
الباهلي اما بعد، لقد اتصل إلينا ما أنت عليه من التكبر والتجبر والعتو
على الله عز وجل، وما صنعته من جنة ونار يا ويلك والويل ثم الويل لك تتخذ
الحديد والجنادل أربابا من الله عز وجل، أرأيت ما صنعته من نارك لو انك
أمرت عبيدك الذين ينقلون الحطب والأخشاب أن يسكنوا عنه يوما واحدا لسكن
لهيبها وانقطع وهجها وخمد حرها، يا ويلك والويل لقومك، بل لو حملوا إليها
الماء وسكبوه فيها لطفئت حرارتها وذهبت جمرتها، فأين نارك من نار وقودها
الناس والحجارة أعدت للكافرين، لا يخمد حرها ولا يبرد لهيبها وهي لا توقد
بحطب ولا بخشب بل توقد بسخط الله عز وجل، فلا تخمد في ليل ولا في نهار
عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، واعلم
أن نارك التي توقدها إنما هي جزء منها، وهي اثنان وسبعون جزء، وأما جنة
الخلد التي وعد المتقون ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، لا يفنى
نعيمها ولا ينقص ثمرها ولا يصفر ورقها، والمؤمنين فيها متنعمون في جوار رب
العالمين وعلى الأرائك متكئون، وأما جنتك التي أحدثتها فلو أمرت بمنع
الماء عنها لجفت أغصانها وفسد ثمارها، فاترك ما أنت عليه من تكبرك على
خالقك ورازقك ولا تنفعك نارك ولا جنتك، فقل معي لا اله إلا الله محمد رسول
الله واشهد لي بالرسالة تكن من الفائزين والصديقين، فان أبيت رميتك بسيف
قاطع وبطل مانع
(قال
الراوي) ثم أن الإمام عليا كرم الله وجهه قرأ الكتاب على النبى صلى الله
عليه وسلم، فاخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب بيده الكريمة وطواه بعد
أن ختمه بخاتمه الشريف ثم قال: يا أبا الحسن خذ معك من المسلمين رجلا فإذا
قربت من ديار عدو الله فقدمه أمامك رسولا بهذا الكتاب، فان أجابه إلى ما
دعوناه إليه وآمن بالله وصدق برسالتي فكف يدك فان الله حليم لا يجعل
بالعقوبة على من عصاه، وان أبي هو وعصى فانظر لنفسك وتدبر أمرك واحذر من
الحصون في مسيرك وتوكل على الله، وقل لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.